حكم التوسل بالميت وهل يختلف عن الحي؟

سؤال

ما هو التوسل؟ وما هو حكم التوسل بالميت؟ وهل يوجد اختلاف بين التوسل بالحي والميت؟

الإجابة

  1. 2024-08-31T18:33:12+03:00

    التوسل هو اللجوء إلى الله تعالى بوسيلة من الوسائل، كما قال الله سبحانه وتعالى: “وابتغوا إليه الوسيلة.” ومن الوسائل المتفق عليها التوسل بالأعمال الصالحة، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبتت مشروعيته في السنة النبوية، ولم يعرف خلاف في جوازه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، استمر المسلمون في اتباع هذا النهج لفترة طويلة، مستندين إلى ما كان عليه الحال في زمن النبي عليه الصلاة والسلام. فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم التوسل، وعلمه للأعمى الذي فعله، وظل المسلمون يتبعون هذا المنهج حتى جاء ابن تيمية، الذي افترض أن التوسل لا يجوز إلا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وخالف بذلك العلماء الذين ردوا عليه بأدلة مختلفة.

    واستمر هذا الخلاف حتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، تذكر كتب الحنفية، مثل كتاب “مراقي الفلاح”، حديث الأعمى كجزء من صلاة الحاجة، مما يدل على أن التوسل لا يشوبه شرك. فعندما تقول “يا رب بجاه سيدنا محمد”، فأنت تتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، فأين الشرك في ذلك؟ وقد أمر الله تعالى بالبحث عن الوسيلة في قوله: “وابتغوا إليه الوسيلة”. ومفهوم الوسيلة يشمل التوسل، كما فهمه الصحابة عندما قالوا: “اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك”.

    تستند الشبهة الكبرى لابن تيمية إلى حادثة توسل الصحابة بالعباس رضي الله عنه، حيث قال: كيف يتوسلون بالعباس والنبي عليه الصلاة والسلام موجود؟ حيث استنبط ابن تيمية من قول الصحابة “إنا كنا نتوسل بنبيك وها نحن نتوسل بعمه العباس” أنه لا يجوز التوسل.

    بينما في الحقيقة، فإن هذه الحادثة تثبت جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وقد نص الإمام أحمد على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الحقيقة التي يتجاهلها الوهابية عمدًا، رغم أن بعضهم يزعم أنه يتبع مذهب الإمام أحمد. وقد صرح الألباني بأن الإمام أحمد أجاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول “حتى وإن صح هذا القول عن أحمد، فلا نقول به!”

    إذا كيف يصرح الوهابية بأنهم يتبعون طريقة السلف ولا يخالفونهم، بينما الإمام أحمد، الذي يصفونه بأنه إمام أهل السنة والجماعة، قد أقرّ بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فهل كان الإمام أحمد مبتدعًا؟

    لماذا العلماء قالوا أن التوسل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام لا يختلف حكمه بعد وفاته؟ لأنهم نظروا إلى السبب والعلة، وقالوا: ما هو مناط التوسل؟ إذا كان مرتبطًا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يزول بزوالها. مثل بعض الأحكام الشرعية التي كانت مرتبطة بحياته الشريفة، كالسهم في الغنائم الذي كان للنبي عليه الصلاة والسلام نصيب منه، وقد انتهى هذا النصيب بوفاته لأنه كان مرتبطًا بحياته.

    فهل التوسل مرتبط بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهي بوفاته، أم هو مرتبط بمكانته صلى الله عليه وسلم؟ أجمع العلماء على أنه مرتبط بمكانته صلى الله عليه وسلم، فهل مكانة سيدنا رسول الله تزول بعد وفاته؟ حاشا وكلا.

    الأغرب من ذلك هو القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز في حياته، ولكنه يصبح شركًا بعد وفاته! كيف يمكن أن يكون الشرك حلالًا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يصبح شركًا بعد وفاته؟ هل يتغير حكم الشرك بحسب الزمان؟ بالتأكيد لا.

    مناط التوسل هو مكانة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سبب، بينما المسبب الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى. حتى في حالة الاستغاثة، كما في حديث الأعمى: “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه لتقضى لي.” فهل النبي عليه الصلاة والسلام هو من يقضي الحاجات؟ لا، النبي عليه الصلاة والسلام لا يقضي الحاجات، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يقضيها، أليس كذلك؟ فكيف نتوسل به عليه الصلاة والسلام؟

    لو سألناك: من الذي يهب الذكور والإناث؟ لقلت: الله هو الواهب، كما قال تعالى: “يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور.” ومن الذي ينبت الزرع؟ ستقول: الله هو المنبت، كما قال تعالى: “ينبت لكم به الزرع.” ومن الذي يتوفى الناس؟ ستجيب: الله هو المتوفي، كما قال: “الله يتوفى الأنفس حين موتها.”

    لكن في مواضع أخرى، نجد أن الله أسند هذه الأفعال إلى غيره. مثل قوله تعالى: “كمثل حبة أنبتت سبع سنابل”، هل الحبة هي التي أنبتت؟ بالطبع لا، ولكن الله أسند الإنبات إليها، رغم أن المنبت الحقيقي هو الله. وكذلك في قوله تعالى: “قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم”، وفي قوله على لسان جبريل: “إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا.”

    إذن، الله هو الواهب والمنبت والمتوفي، ومع ذلك أسند القرآن هذه الأفعال إلى غير الله، وهذا ما يسميه العلماء بالمجاز العقلي. والتوسل والاستغاثة كلاهما من المجاز العقلي، لأنه هذا جاء بلسان عربي مبين. الصحابي الجليل بلال بن الحارث المزني وقف أمام القبر الشريف وقال: “أغث أمتك يا رسول الله، استسق لنا يا رسول الله”، وهذه الحادثة موثقة في كتب التاريخ، وتجدها بالتفصيل في أحداث سنة 18 في “البداية والنهاية” لابن كثير.

    إذن، النبي عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد وفاته لا يضر ولا ينفع قطعاً على سبيل الاعتقاد، أما هو سبب وثيق بلا شك جعله الله تعالى. لذلك، عند أهل السنة والجماعة، التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم سواء في حياته أو بعد وفاته جائز، وقد نص على ذلك الإمام أحمد بن حنبل بوضوح.

    حتى لو افترضنا أن هذه المسألة خلافية، فإننا نقول: الإمام أحمد ابن حنبل ونحن معه اجتهدنا فأخطأنا، وأنتم اجتهدتم فأصبتم، فلماذا تصرون على تبديع من قال بجواز التوسل، ونحن اجتهدنا كما أنتم اجتهدتم؟

    بل ذهب بعض العلماء إلى القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يكون أرجى، لأن بعد وفاته لم يعد للنبي صلى الله عليه وسلم ارتباط بالحياة الدنيا، بل أصبح تعلقه بالله سبحانه وتعالى خالصًا. فرسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أنه كان نورانيًا في حياته، إلا أنه كان بشراً يأكل ويشرب ويعيش حاجات الدنيا. أما بعد وفاته، فقد انتهى تعلقه بالدنيا تمامًا، وأصبح ارتباطه بالله وحده، وهذا ما يجعل التوسل به بعد وفاته أرجى. كما قال العلماء أن الإنسان بعد وفاته يكون حاله أرجى وأقرب إلى الله، لأنه لم يعد له ارتباط بالدنيا، وأصبحت صلته بالله صافية.