أين الله تعالى؟

سؤال

أين الله تعالى عند مذهب أهل السنة والجماعة، وكيف تفسرون حديث الجارية الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجارية أين الله فقالت في السماء؟

الإجابة

  1. 2024-11-05T20:21:20+03:00

    إن من أعظم الفتن التي شغل بها الوهابية أهل السنة والمسلمين جميعًا قضية أين الله، وجعلوها من القضايا الساخنة، مع أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام.

    شبهتهم الأساسية في هذا الباب هو حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وفيه أنه قال: “كانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها، قال: ائتني بها فأتيته بها، فقال لها: أين الله، قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.” رواه الإمام مسلم في “صحيحه”.

    أولاً، المحكم في هذا الباب، هو أن الله جل جلاله لا تجري عليه صفات الحادثات، وهذا أمر متفق عليه عند أهل الإسلام. فالله سبحانه ليس كمثله شيء، وهو قائم بذاته لا يحتاج إلى محل، ولا إلى مخصص، هذا أمر متفق عليه ومجمع عليه عند أهل الإسلام.

    ثانيًا، كلمة أين في لغة العرب تأتي على معنيين لا محالة، معنى حقيقي وهو المكان، فأين يسأل بها عن المكان. وأين يسأل بها أيضًا عن الرتبة والمنزلة، كما نستعمله في حياتنا اليومية فنقول لشخص أين أنت من فلان؟ إذن أين يسأل بها عن المكان ويسأل بها عن المكانة.

    ثالثًا، هل يصلح هذا مقياساً للإيمان؟ بمعنى إذا اعتقد الإنسان أن الله في السماء، فهل يكون بذلك مؤمنًا يدخل الجنة؟ هل قال بذلك أحد من السلف أو الخلف؟

    الوهابية يدّعون أن اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم يعتقدون أن الله في السماء، وهذا كلام غير صحيح. لكن على فرض أنه صحيح، عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام الجارية أين الله؟ قالت: في السماء، فهل هذا كاف في تحقيق الإسلام؟ حتى يكون الإنسان مؤمنًا هل يكفيه أن يعتقد أن الله في السماء؟

    لو جاء شخص يريد الدخول في الإسلام، هل نقول له أن أين الله؟ فإذا أجاب “في السماء” أصبح مسلمًا! بإجماع العلماء، هذا لا يعد كافيًا. إذاً، لماذا سأل النبي عليه الصلاة والسلام الجارية أين الله؟ إذا أردنا أن نفهم هذا علينا أن نعرف كيف كان العرب وقت نزول الوحي يتعاملون مع الله، ومع رسوله عليه الصلاة والسلام، وكيف يعتقدون في الله.

    كان النبي صل الله عليه وسلم إذا سأل أحد المشركين: “كم إلهاً تعبد؟” يجيبه: “سبعة في الأرض وواحد في السماء”، فيرد عليه قائلاً: “دع عنك الذي في الأرض واعبد الذي في السماء”. أي أن هؤلاء كانوا يؤمنون بآلهة أرضية وسماوية.

    فحشد الأدلة والنصوص لإثبات علو الله هو حشد في غير محله، فالله سبحانه وتعالى في السماء بلا شك، وهو العلي الأعلى جل جلاله، والذي ينكر علو الله يكون كافرًا.

    الخلاف مع المجسّمة هو في العلو المادي الحسي، حيث يعتقدون أن لله مكاناً أو مقرّاً في السماء. هذا الذي نسميه الحلول، أن يحل إله في جسد أو في إنسان أو في السماء أو في أرض على الحقيقة. وعقيدة الحلول ما قال بها إلا جهول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد.

    النصوص التي جاءت في العلو الذي هو محل النزاع تشمل العلو والفوقية، والله تعالى نسب العلو والفوقية إلى ذاته. كما نسبتا في القرآن إلى شخص ادّعى الألوهية والربوبية، وهو فرعون حيث قال: أنا ربكم الأعلى، فنسب إلى نفسه العلو والفوقية.

    فلنرجع إلى اللغة والشريعة لفهم هذا السياق؛ الله تعالى قال: “سبح اسم ربك الأعلى”، وفرعون قال: “أنا ربكم الأعلى”. فما المقصود بالعلو الذي يدّعيه فرعون في سياق الربوبية؟ هل أراد العلو المادي، كأن يكون في مكان مرتفع عن الناس، أم أنه يقصد العلو المعنوي؟ بلا شك، هو يقصد العلو المعنوي. بنفس الطريقة الله تعالى قال: “سبح اسم ربك الأعلى”، وسبقها بكلمة سبح حتى تنزهه عن صفات الحادثات.

    أما الفوقية، فقد نسبها الله إلى ذاته في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى: “وفوق كل ذي علم عليم”. وكذلك نسب فرعون إلى نفسه الفوقية في قوله عن بني إسرائيل: “وإنا فوقهم قاهرون”. إذن العلو والفوقية نسبتا إلى الله، ونسبتا إلى عبد يدعي الربوبية والألوهية، بلسان واحد وبطريقة واحدة، فالعلو هو نفسه كما يفهم العرب في لسانهم.

    ونحن ننفي عن الله المكان لأن هذا دليل نقص، ولم نصل إلى هذا الفهم بعقولنا فقط، بل عرفناه بالشريعة؛ فقد جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم “كان الله ولا شيء معه”. أي أن الله كان وحده قبل وجود أي شيء، وعلوه ذاتي وأبدي ولم يحدث بعد خلق السماوات والأرض والعرش.

    ثم ما هو أول مخلوق؟ سيقولون أول شيء خلقه الله هو القلم. إذن في بداية الأمر كان الله ولا شيء معه، ثم خلق الله القلم ثم خلق العرش. إذن العلو لم يستجد لله سبحانه، ولذلك عبر عنه بالصفة المشبهة “الأعلى”، وهو “العلي العظيم”، لم يقل عالٍ باسم الفاعل حتى يكون مرتبطًا بزمان أو مكان.

    بالإضافة إلى ذلك، نجد في الحديث الشريف أن السيدة فاطمة رضي الله عنها جاءت تطلب خادماً من النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لها: “قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء…”

    ما نفهمه من “الظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء” هو عدم وجود الفوقية والتحتية الحسية بالنسبة لله سبحانه، فالله سبحانه هو الفوق بلا شك على المعنى ليس على الحس.

    فالقول بأن أهل السنة والجماعة يقدمون عقولهم ولا يستندون إلى النصوص هو افتراض باطل. مثال على ذلك ما ورد عن الحسن، حيث روى عبد الرزاق وابن جرير أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا: “أين ربنا؟” فأنزل الله تعالى “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.”

    هنا كان السائل هم الصحابة، والمجيب هو الله سبحانه وتعالى. فكيف نترك جواب الله جل جلاله حينما سأل الصحابة أين ربنا، ونتمسك بالسؤال الذي سأله النبي عليه الصلاة والسلام والذي أجابته جارية مشكوك في إيمانها إذ لو كان مقطوعاً بإيمانها لما سألها.

    مما ذكر أهل العلم عن حديث الجارية

    قال شيخ الإسلام الإمام النووي رضي الله تعالى عنه “قوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة). هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان تقدَّم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان، أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقين. والثاني: تأويله بما يليق به. فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء، كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء، كما أنه ليس منحصرًا في جهة الكعبة. بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عبدة الأوثان، العابدين للأوثان التي بين أيديهم. فلما قالت: في السماء، علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان.

    قال القاضي عياض رحمه الله ” لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) ونحوه ليست على ظاهرها، بل هي متأولة عند جميعهم. فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأوّل في السماء: أي على السماء. ومن قال من المتكلمين وأصحاب التنزيه بنفي الحد واستحالة الجهة في حقه سبحانه وتعالى تأوّلوها تأويلات بحسب مقتضاها.

    وتابع رحمه الله “ثم تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشيًا من مثل هذا التسامح، وهل بين التكييف وإثبات الجهة فرق، لكن إطلاق ما أطلقه الشرع من أنه القاهر فوق عباده، وأنه استوى على العرش مع التمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في المعقول غيره، وهو قوله تعالى: (ليس كمثله شيء).”

    إذن اتفق المسلمون جميعاً على أن علو الله ليس حسيًا ولا ماديًا، فالمجسم الذي يعتقد أن الفوقية حسية مادية هو خارج عن إجماع المسلمين. والذي يقول بالجهة يراد به الجهة المعنوية، لا الجهة المادية، لأن الجهات أصلاً نسبية.

    هذا إلى باقي الأدلة الكثيرة التي تتحدث في هذا الباب، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”، وبلا شك أن الساجد بالنسبة للمكان أبعد عن الله، لكن بالنسبة للمكانة أقرب، وهذا هو المعنى المقصود؛ فالقرب والبعد بالنسبة لله سبحانه وتعالى ليس قرًبا حسيًا.